تقترن مدينة وهران، ثاني أكبر مدن الجزائر بعد العاصمة والتي تبعد عنها 460 كيلومترا، غربا على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، باسم الولي الصالح سيدي الهواري، حيث لا يمكن لزائر هذه المدينة إلا أن يعرج على ضريح سيدي الهواري لينال من بركات صاحب المدينة وراعيها، بحيث يعتقد الناس في كراماته وهم بذلك يسمون عددا كبيرا من مواليد وهران على اسم هذا الولي.
في الحي الذي يحتضن الضريح والذي سمي باسمه يختلط عبق الشرق بنكهة الغرب، في هذه الازقة التي كانت أصل المدينة جاء الأسبان منذ خمسة قرون ووضعوا بصماتهم ظاهرة في كل زاوية، من المتاجر إلى المساكن إلى كل تمظهرات العمران، دون أن يغفل لسان الوهرانيين على الاحتفاظ ببعض الكلمات، أو الجمل الأسبانية، هؤلاء الذين غزوا المدينة بعد لجوء اهل الاندلس إليها، والاحتماء بأهلها، فكانت جولات القائد الأسباني “سفرنتاس” وكانت في المقابل صولات القائد العربي “محمد بن عثمان الكبير محرر وهران من الغزو الأسباني. الضريح في احدى زوايا الحي العتيق يموج الناس في غداة ومجيء، قاصدين ضريح سيدي الهواري الذي يتفرد في المكان، ليبسط عليه سلطة روحية مهابة، في هذه الاجواء الخاصة تسترق السمع لألسنة أهل المدينة وزائريها فلا تنصت الا لأدعية بالرحمة على روحه.
“محمد بن عمار الهواري” من بين علماء مدينة وهران وسلطان أوليائها على الإطلاق وهو ينتسب إلى قبيلة “هوارة” كما يدل على ذلك اسمه، ولد في بلده “السور” قرب مدينة “مستغانم” في نحو 1350 ميلادية، وكان أبوه من أعيان القبيلة، وتكفل بتهذيبه رجل عالم صالح يسمى “علي بن عيسى) وكان محمد الهواري لا يشابه أترابه إذ تشير المصادر انه كان لا يشاركهم ألعابهم، زاهدا في الاكل والمشرب والملبس ولا يكذب أبدا، كان يحفظ القرآن الكريم وهو ابن عشر سنوات، ومن ثم اطلعه شيخه على أوليات التصوف، واشتهر بترحاله عبر العالم الإسلامي وكانت البداية رحلته إلى مدينة بجاية حيث نال فيها جوائز عدة ومنها رحل إلى فاس حيث أخذ العلم من أكبر علماء عصره، دارسا للقرآن والتفسير والفقه والادب العربي. وعندما بلغ خمسا وعشرين سنة من عمره ألف كتابا حول العلاقة الروحية بين الخالق والمخلوق يحمل عنوان (السهو والتنبيه)، ثم قصد مكة المكرمة لأداء فريضة الحج مارا بالقاهرة وقد استقر في مكة مدة طويلة وعرج على المدينة المنورة حيث درس على يد أبي الفتح بن ابي بكر القرشي ليرحل بعدها إلى دمشق حيث اختار المسجد الأموي سكنا ومكانا للاستزادة في العلم والاطلاع على مكامن التصوف والفقه، وما ان غادر دمشق حتى التحق ثانية بالمغرب الأقصى لاتمام اطلاعه على يد العلامة بن سعد الشريف نور الدين.
منارة علم
وقد اشتهرسيدي الهواري بالتفاني في العبادة واقامة المناسك الروحية والسلوك القويم والصيام الطويل، ولم يكن يأكل حتى يجوع حسبما ذكره ابن سعد. وكان الامام سيدي الهواري مؤسسا لأول زاوية مهمة في وهران والتي قام بتوسيعها إبراهيم التازي فيما بعد من خلال اقامة مسجد ومدرسة ومكتبة وغرف لإيواء القادمين إليها، وأضحت هذه الزاوية منارة علم، تدرس العلوم الفقهية والروحية والتصوف، والزاوية كما اصطلح على ذلك اهل المغرب العربي هي مدرسة لتعليم العلوم والفقه، ومكتبة ومسجد جامع وأيضا مكان لإيواء الطلبة والقيام على خدمتهم بحيث يتوافد طالبو المعرفة من كل الامصار، وهم بذلك يحتاجون إلى رعاية معنوية ومادية توفرها لهم الزاوية من خلال تبرعات الاهالي والمحسنين.
وكان الامام سيدي الهواري بمثابة الأب الروحي لسكان مدينة وهران بحيث كان يقصده الناس من كل حدب وصوب للاستشارة وطلب الرأي في مختلف القضايا التي تهمهم وتعنى بحياة المجتمع اليومية. وقد روي عن الهواري كما يحكي ابن سعد التلمسانى انه كان يقرأ اسئلة وأفكار زواره قبل التحدث اليهم ويحكي لهم ما يدور بمخيلتهم بفضل الكرامات التي وهبها الله اياه، وباعتباره من أولياء الله الصالحين ذوي الكرامات كان المريدون يقصدونه من اجل العلاج وحل مشاكلهم، وكان كذلك بمثابة قاضي المدينة يفض النزاعات بين المتخاصمين وكان التجار يقدمون له ****اة، وكانت الهدايا تصل إلى زاويته من كل جهة وتوزع على الفقراء أو تستعمل لتغطية احتياجات الزاوية.
كانت مدينة وهران في عهد الامام سيدي الهواري تتميز بازدهار تجاري كبير، الامر الذي جعل الولي الصالح يهتم بتسوية كل الامور والمشاكل ذات الطابع القانوني، كما جاء في كتب ابن سعد وابن مريم، حيث كان يقوم على سبيل المثال بالمصادقة على الوثائق الخاصة بالممتلكات الشخصية.
وكان سيدي الهواري حفاظة للشعر، وينظمه أيضا، وله قصيدتا (التسهيل) و(التبيان) المشهورتان، وعلى اثر وفاة الهواري، خلفه على رأس الزاوية مساعده العلامة إبراهيم التازي الذي كان فقيها وحافظا للقرآن والسنة وألف عدداً من الكتب ونظم الاشعار وجعل من وهران مدينة العلم، وبذلك جعلت زاوية الامام سيدي الهواري الناس تهتم بالعلوم فتخرج فيها عدد من الفقهاء امثال الامام السنوسي والشيخ أحمد زروق.
وتتفق جميع الكتابات ان المدينة وهران اشتهرت وحظيت بمكانة علمية بفضل الامامين سيدي الهواري وإبراهيم التازي.
توفي هذا العابد الزاهد، والولي الصالح في سنة 1439 ميلادية ودفن في وهران، حيث ما زال ضريحه الذي يقع في شارع القصر القديم محط التوقير والاحترام الكبيرين، وما زال أبناء المدينة يحتفظون باسمه عبر الاجيال.